فصل: فَصْلٌ: (تَعْرِيفُ الْإِرَادَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْإِرَادَةِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
بَابُ الْإِرَادَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}.
فِي تَصْدِيرِهِ الْبَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِ. وَجَلَالَةِ مَحِلِّهِ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ. فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ، وَيُنَاسِبُهُ، وَيَلِيقُ بِهِ. فَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَمُرِيدُ الدُّنْيَا وَجِيفَتِهَا عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ. وَمُحِبُّ الصُّوَرِ: عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَيَلِيقُ بِهِ.
فَكُلُّ امْرِئٍ يَهْفُو إِلَى مَا يُحِبُّهُ ** وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ

فَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ الْمُحِبُّ لِلَّهِ: يَعْمَلُ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ وَالْمُنَاسِبُ لَهُ. فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَةِ إِرَادَتِهِ. وَمَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِهِ، وَالْأَنْسَبُ لَهَا.
قَالَ: الْإِرَادَةُ مِنْ قَوَانِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَجَوَامِعِ أَبْنِيَتِهِ. وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَوَاعِي الْحَقِيقَةِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرَادَةِ. فَهِيَ أَسَاسُهُ، وَمَجْمَعُ بِنَائِهِ. وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْإِرَادَةِ. وَهِيَ حَرَكَةُ الْقَلْبِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ عِلْمَ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْجَوَارِحِ. وَلِهَذَا سَمَّوْهُ عِلْمَ الظَّاهِرِ فَهَاتَانِ حَرَكَتَانِ اخْتِيَارِيَّتَانِ. وَلِلْعَبْدِ حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِهَا، وَأَحْكَامِهَا: هُوَ عِلْمُ الطِّبِّ. فَهَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْكَفِيلَةُ بِمَعْرِفَةِ حَرَكَاتِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَحَرَكَاتِ الطَّبِيعَةِ.
فَالطَّبِيبُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ تَأَثُّرِ الْبَدَنِ عَنْهَا صِحَّةً وَاعْتِلَالًا، وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ.
وَالْفَقِيهُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهَا لِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَرَاهَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ.
وَالصُّوفِيُّ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً لَهُ إِلَى مُرَادِهِ. أَوْ قَاطِعَةً عَنْهُ، وَمُفْسِدَةً لِقَلْبِهِ، أَوْ مُصَحِّحَةً لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِيقِيَّةِ فَـالْإِجَابَةُ هِيَ الِانْقِيَادُ، وَالْإِذْعَانُ. وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ: مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالشَّرِيعَةُ الْتِزَامُ الْعُبُودِيَّةِ. فَالشَّرِيعَةُ: أَنْ تَعْبُدَه. وَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تَشَهَدُهُ. فَالشَّرِيعَةُ: قِيَامُكَ بِأَمْرِهِ. وَالْحَقِيقَةُ: شُهُودُكَ لِوَصْفِهِ. وَدَاعِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ صِحَّةُ الْمَعْرِفَةِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ وَلَا بُدَّ.
وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْإِجَابَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: نَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ. لَا تُعْوِزُ إِلَّا الدَّاعِيَ. وَدَعْوَةٌ مُسْتَمَعَةٌ، وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَانِعِ.
فَمَا انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ.
وَقَوْلُهُ: طَوْعًا أَوْ كَرْهًا يُشِيرُ إِلَى الْمَجْذُوبِ، الْمُخْتَطَفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَالسَّالِكِ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا وَمُجَاهَدَةً.

.[دَرَجَاتُ الْإِرَادَةِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى ذَهَابٌ عَنِ الْعَادَاتِ بِصِحَّةِ الْعِلْمِ]:

قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ لِلْإِرَادَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَهَابٌ عَنِ الْعَادَاتِ بِصِحَّةِ الْعِلْمِ. وَالتَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ، مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ. وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ. وَمُشَتِّتٌ مِنَ الْأَوْطَانِ.
هَذَا يُوَافِقُ مِنْ حَدِّ الْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا: مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ. وَهِيَ تَرْكُ عَوَائِدِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَرَعُونَاتِهَا وَبَطَالَاتِهَا. وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا. وَهِيَ: صُحْبَةُ الْعِلْمِ وَمُعَانَقَتُهُ. فَإِنَّهُ النُّورُ الَّذِي يُعَرِّفُ الْعَبْدَ مَوَاقِعَ مَا يَنْبَغِي إِيثَارُ طَلَبِهِ. وَمَا يَنْبَغِي إِيثَارُ تَرْكِهِ. فَمَنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ: لَمْ تَصِحَّ لَهُ إِرَادَةٌ بِاتِّفَاقِ كَلِمَةِ الصَّادِقِينَ. وَلَا عِبْرَةٌ بِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَتَى رَأَيْتُ الصُّوفِيَّ الْفَقِيرَ يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ. فَاتَّهِمْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَمِنْهَا: التَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِأَنْفَاسِ قَوْمٍ انْخَرَطَ فِي مَسْلَكِهِمْ. وَدَخَلَ فِي جَمَاعَتِهِمْ.
وَقَالَ أَنْفَاسُ السَّالِكِينَ وَلَمْ يَقُلْ: أَنْفَاسُ الْعَابِدِينَ. فَإِنَّ الْعَابِدِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ. وَشَأْنُ السَّالِكِينَ مُرَاعَاةُ الْأَحْوَالِ.
وَقَوْلُهُ: مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ.
يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَوْحِيدُهُ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الْمَقْصُودِ. فَلَا يَقَعُ فِي قَصْدِكَ قِسْمَةٌ. وَلَا فِي مَقْصُودِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ، وَمُشَتِّتٍ مِنَ الْأَوْطَانِ.
يُشِيرُ إِلَى تَرْكِ الْمَوَانِعِ، وَالْقَوَاطِعِ الْعَائِقَةِ عَنِ السُّلُوكِ: مِنْ صُحْبَةِ الْأَغْيَارِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَوْطَانِ، الَّتِي أَلِفَ فِيهَا الْبَطَالَةَ وَالنَّذَالَةَ. فَلَيْسَ عَلَى الْمُرِيدِ الصَّادِقِ أَضَرَّ مِنْ عُشَرَائِهِ وَوَطَنِهِ، الْقَاطِعِينَ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلْيَغْتَرِبْ عَنْهُمْ بِجُهْدِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تُقْطَعُ بِصُحْبَةِ الْحَالِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تُقْطَعُ بِصُحْبَةِ الْحَالِ، وَتَرْوِيحِ الْأُنْسِ، وَالسَّيْرِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ.
أَيْ يَنْقَطِعُ إِلَى صُحْبَةِ الْحَالِ. وَهُوَ الْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِهِ بِالْمُعَامَلَةِ، السَّالِبُ لِوَصْفِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ، الْجَالِبُ لَهُ إِلَى مُرَافَقَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَقَامِ الْعِلْمِ إِلَى مَقَامِ الْكَشْفِ، وَمِنْ مَقَامِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ إِلَى مَقَامِ حَقَائِقِهَا وَأَذْوَاقِهَا، وَمَوَاجِيدِهَا، وَأَحْوَالِهَا. فَيَتَرَقَّى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ.
وَأَمَّا تَرْوِيحُ الْأُنْسِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَإِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَجِدُ تَعَبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَقَّةَ الْعَمَلِ. لِعَدَمِ أُنْسِ قَلْبِهِ بِمَعْبُودِهِ. فَإِذَا حَصَلَ لِلْقَلْبِ رُوحُ الْأُنْسِ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَالْمَشَاقُّ. فَصَارَتْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ. وَقُوَّةً وَلَذَّةً.
فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عِبْئًا عَلَيْهِ. وَيَسْتَرِيحُ بِهَا، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ مِنْهَا. فَلَهُ مِيرَاثٌ مِنْ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بِلَالُ. وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَأُنْسِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَحْشَتِهِ مِمَّا سِوَاهُ.
وَأَمَّا السَّيْرُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ.
فَـ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِكُلِّ سَالِكٍ. يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْخَوْفِ تَارَةً، وَالرَّجَاءِ تَارَةً، فَيَقْبِضُهُ الْخَوْفُ. وَيَبْسُطُهُ الرَّجَاءُ.
وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْوَفَاءِ تَارَةً، وَالْجَفَاءِ تَارَةً، فَوَفَاؤُهُ: يُورِثُهُ الْبَسْطَ. وَرَجَاؤُهُ يُورِثُهُ الْقَبْضَ.
وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ التَّفْرِقَةِ تَارَةً، وَالْجَمْعِيَّةِ تَارَةً، فَتَفْرِقَتُهُ تُورِثُهُ الْقَبْضَ. وَجَمْعِيَّتُهُ تُورِثُهُ الْبَسْطَ.
وَيَتَوَلَّدَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَارِدِ تَارَةً. فَوَارِدٌ يُورِثُ قَبْضًا، وَوَارِدٌ يُورِثُ بَسْطًا.
وَقَدْ يَهْجُمُ عَلَى قَلْبِ السَّالِكِ قَبْضٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَبَسْطٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَحُكْمُ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْضِ: أَمْرَانِ.
الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ نَتِيجَةُ جِنَايَةٍ. أَوْ جَفْوَةٍ. وَلَا يَشْعُرُ بِهَا.
وَالثَّانِي: الِاسْتِسْلَامُ حَتَّى يَمْضِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَلَا يَتَكَلَّفُ دَفْعَهُ. وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَقْتَهُ مُغَالَبَةً وَقَهْرًا. وَلَا يَطْلُبُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ، وَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَمْضِيَ عَامَّةُ اللَّيْلِ. وَيَحِينَ طُلُوعُ الْفَجْرِ. وَانْقِشَاعُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَهْجُمَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ. فَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَارِدُ الْبَسْطِ: فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِاهْتِزَازِ. وَلْيُحْرِزْهُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِمَاشِ. فَالْعَاقِلُ يَقِفُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَيَحْذَرُ مِنْ الِانْبِسَاطِ، وَهَذَا شَأْنُ عُقَلَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَرُؤَسَائِهِمْ: إِذَا مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُبْسِطُهُمْ وَيُهَيِّجُ أَفْرَاحَهُمْ، قَابَلُوهُ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي مَدْحِ الْمُهَاجِرِينَ:
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُـمُ ** قَوْمًا وَلَيْـسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا

.[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ ذُهُولٌ مَعَ صُحْبَةِ الِاسْتِقَامَةِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذُهُولٌ مَعَ صُحْبَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَمُلَازَمَةِ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ.
الذُّهُولُ هَاهُنَا: الْغَيْبَةُ فِي الْمُشَاهَدَةِ بِالْحَالِ الْغَالِبِ، الْمُذْهِلِ لِصَاحِبِهِ عَنِ الْتِفَاتِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ مَصْحُوبًا بِالِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ حِفْظُ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَعَدَمُ إِضَاعَتِهَا. وَإِلَّا فَأَحْسَنُ أَحْوَالِ هَذَا الذَّاهِلِ: أَنْ يَكُونَ كَالْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمَ. فَلَا يُقْتَدَى بِهِ. وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ الِاسْتِقَامَةَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ الذُّهُولِ الْمُخْرِجَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، بِاسْتِدْعَائِهِ وَتَكَلُّفِهِ وَإِرَادَتِهِ: فَهُوَ عَاصٍ مُفَرِّطٌ، مُضَيِّعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ. لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ.
وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: مَتَى كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا. لَمْ يَكُنِ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا.
وَقَوْلُهُ: وَمُلَازَمَةُ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ.
يُرِيدُ بِهِ: مُلَازَمَتَهُ رِعَايَةَ حُقُوقِ اللَّهِ مَعَ التَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. فَلَا يُخْرِجُهُ ذُهُولٌ عَنِ اسْتِقَامَتِهِ. وَلَا عَنْ رِعَايَةِ حُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَلَا عَنِ الْوُقُوفِ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ مَعْنَاهُ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ.
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالِاجْتِمَاعِ. فَالْأَدَبُ: اجْتِمَاعُ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْهُ الْمَأْدُبَةُ. وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَعِلْمُ الْأَدَبِ: هُوَ عِلْمُ إِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْخِطَابِ، وَإِصَابَةِ مَوَاقِعِهِ، وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ. وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْأَدَبِ الْعَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [أَنْوَاعُ الْأَدَبِ]:

وَالْأَدَبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرْعِهِ. وَأَدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ.
فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ.
الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْعَبْدُ يَصِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَصِلُ بِأَدَبِهِ فِي طَاعَتِهِ إِلَى اللَّهِ.
وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْفِهِ فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْأَدَبُ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُعَامِلَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا. ثُمَّ أَنْشَدَ:
إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلَاحَةٍ ** وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِــيحٍ

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ صَاحَبَ الْمُلُوكَ بِغَيْرِ أَدَبٍ أَسْلَمَهُ الْجَهْلُ إِلَى الْقَتْلِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: إِذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرُوفِهِ، فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَرْكُ الْأَدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ. فَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إِلَى الْبَابِ. وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إِلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ صَارَ مَنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: نَحْنُ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنْفَعَ الْأَدَبِ؟ فَقَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ. وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ.
وَقَالَ سَهْلٌ: الْقَوْمُ اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ. وَصَبَرُوا لِلَّهِ عَلَى آدَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْأَدَبَ حِينَ فَاتَنَا الْمُؤَدَّبُونَ.
وَقَالَ: الْأَدَبُ لِلْعَارِفِ كَالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ- لَمَّا قَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ: لَقَدْ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ السَّلَاطِينِ- فَقَالَ: حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وَبِإِيقَاعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْحَيَاءِ. كَحَالِ مَجَالِسِ الْمُلُوكِ وَمُصَاحِبِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّرَّاجُ: النَّاسُ فِي الْأَدَبِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ.
أَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ. وَحِفْظِ الْعُلُومِ، وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَوَاطِرِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ، وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ، وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ بِالْأَدَبِ فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي الْأَدَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، وَتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُونَاتِ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِذَا صَحَّتِ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ.
وَقَالَ النُّورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ: إِذَا خَرَجَ الْمُرِيدُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالْأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ؟
قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أَقُلْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْأَدَبِ. ثُمَّ أَحَالَ الْأَمْرَ عَلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَالِ وَسِرِّهِ. فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ثُمَّ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثُمَّ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ. وَوَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ كُلِّهَا. فَقَالَ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ- وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ- فَقَالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهَادَةٍ وَأَعَمُّ. فَقَالَ: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. أَيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ- مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ- فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ مِنْ أَبْخَسِ الْعَبِيدِ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَأَعْصَاهُمْ لَهُ- لَمْ تُعَذِّبْهُمْ. لِأَنَّ قُرْبَةَ الْعُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إِحْسَانَ السَّيِّدِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَحْمَتَهُ. فَلِمَاذَا يُعَذِّبُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَعْظَمُ الْمُحْسِنِينَ إِحْسَانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلَا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وَإِبَاؤُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَمَالُ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أَيْ هُمْ عِبَادُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِمَا تُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ. فَهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا جَنَوْهُ وَاكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ، كَمَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ. وَلَا تَفْوِيضٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْمُلْكِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْحِكْمَةِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَلَمْ يَقُلِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَالْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. فَلَيْسَ هُوَ مَقَامَ اسْتِعْطَافٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. بَلْ مَقَامُ بَرَاءَةٍ مِنْهُمْ. فَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَشْعَرَ بِاسْتِعْطَافِهِ رَبَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقَامُ مَقَامُ مُوَافَقَةٍ لِلرَّبِّ فِي غَضَبِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْأَلُ بِهِمَا عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِلَى ذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا عَنْ خَفَاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ جَرَائِمِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَلِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَمَالُ: هُوَ مَغْفِرَةُ الْقَادِرِ الْعَالِمِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَيْنَ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. وَلِهَذَا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}. وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ أَعِيبَهَا. وَقَالَ فِي الْغُلَامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وَلَمْ يَقُولُوا: أَرَادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالُوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.
وَأَلْطَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَلَمْ يَقُلْ: أَطْعِمْنِي.
وَقَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وَقَضَيْتَ عَلَيَّ.
وَقَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. وَلَمْ يَقُلْ: فَعَافِنِي وَاشْفِنِي.
وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ، حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ إِخْوَتِهِ. وَتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أَنْ لَا يُخْجِلَهُمْ بِمَا جَرَى فِي الْجُبِّ. وَقَالَ: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكُمْ جُهْدَ الْجُوعِ وَالْحَاجَةَ. أَدَبًا مَعَهُمْ. وَأَضَافَ مَا جَرَى إِلَى السَّبَبِ. وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فَأَعْطَى الْفُتُوَّةَ وَالْكَرْمَ وَالْأَدَبَ حَقَّهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذَا الْخُلُقِ إِلَّا لِلرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الْأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عُوقِبَ ظَاهِرًا. وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ بَاطِنًا إِلَّا عُوقِبَ بَاطِنًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ.
وَقِيلَ: الْأَدَبُ فِي الْعَمَلِ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ اسْتِعْمَالُ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ: اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الطَّبِيعَةِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ.
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لِقَبُولِ الْكَمَالِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ كَامِنَةً كَالنَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَأَلْهَمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَعَرَّفَهُ وَأَرْشَدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْرَاجِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَهَّلَهُ بِهَا لِكَمَالِهِ إِلَى الْفِعْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّمَامِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِهَا لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى. وَأَنَّ ذَلِكَ نَالَهَا مِنْهُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالْفَلَاحِ مَنْ زَكَّاهَا فَنَمَّاهَا وَعَلَّاهَا. وَرَفَعَهَا بِآدَابِهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ. وَهِيَ التَّقْوَى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقَاءِ عَلَى مَنْ دَسَّاهَا فَأَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا. وَصَغَّرَهَا وَقَمَعَهَا بِالْفُجُورِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]:

وَجَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ: أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَرَاهُ مَا أَرَاهُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وَأَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ صَدَّرَ بَابُ الْأَدَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا. وَلَا تَجَاوَزَ مَا رَآهُ. وَهَذَا كَمَالُ الْأَدَبِ. وَالْإِخْلَالُ بِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ النَّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، أَوْ يَتَطَلَّعَ أَمَامَ الْمَنْظُورِ. فَالِالْتِفَاتُ زَيْغٌ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى مَا أَمَامَ الْمَنْظُورِ: طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ. فَكَمَالُ إِقْبَالِ النَّاظِرِ عَلَى الْمَنْظُورِ: أَنْ لَا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَلَا يَتَجَاوَزَهُ.
هَذَا مَعْنَى مَا حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ. وَهِيَ مِنْ غَوَامِضِ الْآدَابِ اللَّائِقَةِ بِأَكْمَلِ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَاطَأَ هُنَاكَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ. وَتَوَافَقَا وَتَصَادَقَا فِيمَا شَاهَدَهُ بَصَرُهُ. فَالْبَصِيرَةُ مُوَاطِئَةٌ لَهُ. وَمَا شَاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالْبَصَرِ. فَتَوَاطَأَ فِي حَقِّهِ مَشْهَدُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} أَيْ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ.
وَلِهَذَا قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ- أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. بَلْ صَدَّقَهُ وَوَاطَأَهُ. لِصِحَّةِ الْفُؤَادِ وَالْبَصَرِ. أَوِ اسْتِقَامَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ. وَكَوْنُ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ حَقًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بِالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَ: مَا رَأَى مَفْعُولَهُ: أَيْ مَا كَذَبَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ. بَلْ وَاطَأَهُ وَوَافَقَهُ. فَلِمُوَاطَأَةِ قَلْبِهِ لِقَالَبِهِ، وَظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ. وَبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْبَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغَى. وَلَمْ يَمِلْ عَنِ الْمَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ الْبَصَرُ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ. مَا جَاوَزَهُ وَلَا مَالَ عَنْهُ، كَمَا اعْتَدَلَ الْقَلْبُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَإِنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَلِلْقَلْبِ زَيْغٌ وَطُغْيَانٌ. وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ الْتِفَاتًا عَنِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَمْ يَطْغَ بِمُجَاوَزَتِهِ مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ.
وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِوَاهُ.
فَإِنَّ عَادَةَ النُّفُوسِ، إِذَا أُقِيمَتْ فِي مَقَامٍ عَالٍ رَفِيعٍ: أَنْ تَتَطَلَّعَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَفَوْقَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أُقِيمَ فِي مَقَامِ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ: طَلَبَتْ نَفْسُهُ الرُّؤْيَةَ؟ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَفَّاهُ حَقَّهُ: فَلِمَ يَلْتَفِتْ بَصَرُهُ وَلَا قَلْبُهُ إِلَى غَيْرِ مَا أُقِيمَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ؟
وَلِأَجْلِ هَذَا مَا عَاقَهُ عَائِقٌ. وَلَا وَقْفَ بِهِ مُرَادٌ، حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ حَتَّى عَاتَبَ مُوسَى رَبَّهُ فِيهِ. وَقَالَ: يَقُولُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنِّي كَرِيمُ الْخُلُقِ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ جَاوَزَنِي وَخَلَّفَنِي عُلُوًّا. فَلَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ؟ وَلَكِنْ مَعَهُ كُلُّ أُمَّتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى. قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي أَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ جَاوَزَهُ عُلُوًّا فَلَمْ تَعُقْهُ إِرَادَةٌ. وَلَمْ تَقِفْ بِهِ دُونَ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ هِمَّةٌ.
وَلِهَذَا كَانَ مَرْكُوبُهُ فِي مَسْرَاهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، مُشَاكِلًا لِحَالِ رَاكِبِهِ، وَبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ الْعَالَمَ أَجْمَعَ فِي سَيْرِهِ، فَكَانَ قَدَمُ الْبُرَاقِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ. كَمَا كَانَ قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ.
فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَفَارَةِ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَكْمِيلِ مَرَاتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتَّى خَرَقَ حُجُبَ السَّمَاوَاتِ، وَجَاوَزَ السَّبْعَ الطِّبَاقَ. وَجَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَوَصَلَ إِلَى مَحَلٍّ مِنَ الْقُرْبِ سَبَقَ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. فَانْصَبَّتْ إِلَيْهِ هُنَاكَ أَقْسَامُ الْقُرْبِ انْصِبَابًا. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْحُجُبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِجَابًا حِجَابًا. وَأُقِيمَ مَقَامًا غَبَطَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَادِ أُقِيمَ مَقَامًا مِنَ الْقُرْبِ ثَانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَاسْتَقَامَ هُنَاكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَمَا طَغَى. فَأَقَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَقْوَمَ صِرَاطٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَأَقْسَمَ بِكَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ لِأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، حَتَّى يَجُوزُوهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.